أنا الأخرى ..

ظنت أتها نفضت غبار الماضي عن أجنحتها و أنها نست كل شيء و تصالحت مع ذاتها ..
و لكنها ما إن تجلس بمفردها و تختلي بنفسها تداهما الذكريات و الأيام القديمة , كأنما كان وحش الماضي يريد أن ينفرد بها كي يلتهمها في صمت ..
يداهمها الماضي و الذكريات و الشخصيات ..
 تداهمها صورة طفلة صغيرة , مراهقة , تسميها "أنا الأخرى" .
كانت "أنا الأخرى" مجنونة كما يقول أستاذها و عاقة كما يقول والديها و ممسوسة بشيء من السحر و الشياطين كما تقول جدتها .
تلك الطفلة المتغيرة مع تغير الفصول و المتمردة على القوانين و المتهادية في مشيتها و التي لا تعرف شيئا من الإعتدال و التوازن _المعرف حسب المجتمع _ مختلفة و حسب .
تذكر موجات الغضب التي تراودها .
 تحطم و تهشم المكان و تضرب هاتفها عرض الحائط إن أغضبها أحدهم , لا تهتم بأحد من أصدقائها , لا ترد على الاتصالات عندما تنتابها رغبة في الانطواء على ذاتها , تلغي المواعيد و تتخلف عنها دون أن تتصل ..
تخجل كلما زارتها صوة "أنا الأخرى " , بل انها أحيانا تحاول أن تقتلها عندما تنكر أنها قد وجدت في يوم ما ..
 هي اليوم منضبطة و معتدلة ,تمشي مستقيمة , تنكس رأسها و تحمر خجلا عندما يخاطبها شخص ..
 تجيب على اتصالاتها و لا تتخلف عن المواعيد و لا تتأخر عن حصص الدراسة .
أصبحت مثالا عن الاعتدال و التوازن حسب المفهوم المتداول...
و لكنها أحيانا _رغم مقتها ل"أنا الأخرى" _ تشتاق اليها .
تشتاق الى أيام التمرد و الحرية و الاستهتار و السعادة ..
أيام كانت تختار ألوانا مختلفة لشعرها , أحمر , أزرق , أشقر , رمادي .. و تلبس الألوان المشرقة و اللامعة .
 شبهها أصدقاءها بفصيلة من العصافير التي انقرضت ..
تكثر من الكحل الأسود و من اللون البنفسجي فوق عينيها , و تلبس القصير كاشفة عن رجليها و تمشي كأنما كانت عارضة أزياء, تغري ذلك و تسحر ذاك , تتغيب عن المعهد , تسخر من الأساتذة إن أخطأوا .
 ترسب في امتحاناتها و لا تهتم بالنتائج ," المعهد لا يعلمك فن الحياة , الحياة تتعلمها في الخارج . المعهد سجن اختياري و أختار ان لا اراوده" هذا ما كانت تقوله لأصدقائها .
لقد تمردت على كل شيء حتى عائلتها و أكلها فتأكل يوما تجوع نفسها أسبوعا و لكنها كانت تحب هوايتها و تتفانى فيها ..
 كانت تسهر الليل تقرا كل شيء ما عدى دروسها و تتدرب على الرقص الكلاسيكي.. ترفع يديها الى السماء , تغمض عينيها و تدور حول نفسها و حول فستانها الأسود المفضل  كأنما تستمد طاقة و مباركة سماوية,  و تقفز من جهة الى أخرى كفراشة أو كعصفور حر طليق .. ترقص حتى تسيل الدماء من قدميها فيترك الشغف أثره فيها.
 و لكن والديها كانا يمنعانها من التدرب ليلا و صباحا " عيب عيييب الي تعمل فيه , ناوية تطلع رقاصة ؟؟ لو درست لنفعت نفسك و غيرك " و كانت حينها تنتابها موجات من الغضب فتصرخ و تشتم و تحطم الاواني و ثم تدفن وجهها في وسادتها و تتمتم كلمات لا تعرفها إلا هي  .
إنها فعلا تشتاق الي الشعور بالسعادة و الحرية رغم أنها ذكريات مطبوعة بالخزي و بعض من الندم ..
 تتذكر اليوم الذي قررت فيه أن ترضخ لعائلتها و للمجتمع ..
 كان يوم رفضت في مسابقة في الرقص.
 يومها هوى حلمها و تحطمت حياتها , و فهمت أن الدراسة أهم من الرقص و أن المجتمع و نظرته أهم من الأحلام . و لكنها لم تفهم أنه لا يهم أن تفشل آلاف المرات , لا يهم أن تسقط , لا يهم أن يحكم أحدهم قيدك ما دمت تؤمن بنفسك ..  يومها تخلت عن الرقص , وضعت كل طاقتها في الدراسة و لم تعد ذلك العصفور الطليق .. صارت سجينة المجتمع و العادات و سجينة فشلها و خيبتها و ظل الماضي يلاحقها ككابوس و ظلت "أنا الأخرى" تصرخ و تستغيث مطالبة  بحقها في الحياة..
كانت كلما تحدثنا تقول لي " حياتي كابوس و لا أعرف ان كنت أكره ماضي أو أشتاق اليه .. جزء مني مات و أشعر أنني عادية كالبقية , أسير في الدنيا و فقط ,  ربما صرت روبوتا عندما تخليت عن "أنا الأخرى" "..
و كنت دائما أجيبها " يا عزيزتي , أفضل طريقة للاستيقاظ من الكابوس هو أن تعيشيه  كأنما كان حقيقة .. لا تهربي منه و لا تتجاهليه و لكن عيشيه و تصارعي معه .. أما عن "أنا الأخرى" فهي حية , لا تخمدي صوتها و أطلقي سراحها , فهي أجنحتك و هي التي تعزف لك سمفونية حياتك و تحيك لك أحلامك.. "




Commentaires