كأنما عاشت لتموت ..
استيقظت مبكرا ككل يوم رغم انها لم تذق للنوم طعما ..
ظلت تتأمل السقف لبضع دقائق شاردة الذهن ثم قفزت من سريرها بسرعة كأنما ارادت الهروب منه حتى لا يتملكها لبقية اليوم . فتحت النافذة لربما نور الشمس يطغى على العتمة التى امتصت روحها .
نظرت الى وجهها في المرآة : لاحظت ظهور أول شعرات بيضاء و خطين من التجاعيد في جبينها ، ابتسمت و شعرت بالفخر ، لطالما انتظرت هذه اللحظة فهذه العلامات على وجهها هي دليل على صمودها رغم مرور الزمن .
ثم اعترتها نوبة من الخوف و الحزن عندما لمحت تحت سوارها آثار الجرح العميق في معصميها الذي كلما رأته فكرها في ذلك اليوم الذي قطعت فيه عروقها رغبة في الموت و الهروب من الواقع.
شعرت بالخجل ، و بالاحباط ، فالانتحار للجبناء كما كانت تقول ، و لكنها يوم ارادت وضع حد لالمها ادركت ان الانتحار هو نداء استغاثة و امل في ان يكون المجهول اجمل من الحاضر .
لقد كانت و لا تزال هذه العلامات تمثل لها خزيا و عارا . حاولت إخفاءها بكل الطرق : لبست ملابس ذات اكمام طويلة و اكثرت من الاساور و الحلي . و لكنها لم تنجح في محو الذكريات من مخيلتها .
قال لها طبيبها : لقد كانت لحظة ضعف سببها الاكتئاب . فقالت له : لقد كانت لحظة شجاعة و قوة ارادة سببها الملل من الشعور بالحزن ..
ما لبثت ان اتجهت الى المطبخ لتعد الفطور و تأخذ حصتها الصباحية من السموم .
لقد كانت تعاني من صداع شديد لا دواء له سوى جرعة قاتلة من الكافيين .
قامت باشغال الراديو و وضعت قناتها المفضلة ثم اعدت كوب قهوتها على مهل و أكثرت من البن هذه المرة .
نظرت إلى الطاولة بجانبها و لمحت قارورة الخمر المعتق فارغة و بجانبها كأس طبع عليه احمر شفاهها الذي اشتراه لها حبيبها السابق من محل "شانيل" . لقد هجرته لأنه لم يفهم انها احتاجت حبه اكثر من امواله و احتاجت وجوده اكثر من كلماته . تفكرت كم كانت وحيدة السنوات الفارطة رغم تعدد الرجال في حياتها و كم ساعدها الكحول على تخطي ذلك الاحساس ..
الآن عرفتم سبب صداعها المزمن ..
جلست تترشف قهوتها ، اشعلت سيجارة ، وضعت دفتر مذكراتها بجانبها لربما تراودها أفكار أو تشعر بالالهام .
فوق الطاولة، بجانب قارورة الخمر كانت نبتة الصبار تقف في شموخ . لقد اشترت تلك النبتة يوم ادركت ان شخصيتها لم تعد تشبه الورود الحمراء و البيضاء التي كانت تعتني بها بل صارت شائكة و حادة مثل نبتة الصبار ، تلك النبتة التي لا تموت و لا تذبل حتى ان اهملت لأنها ليست محتاجة لشخص يعتني بها .
اخرجت من الاصيص كيسا و فتحته.
سكبت فوق الطاولة قليلا من تلك البودرة ناصعة البياض ، وضعتها في شكل سطر .
أغمضت عينيها ، استعدت للشعور بالنشوة ، ابتسمت في سخرية من القدر " أصدقائي يقولون مسكينة هي مدمنة ، كأنما كنت ضحية و لكن في الواقع لا يوجد مدمن بالرغم عن انفه .الادمان اختيار يومي . السعادة هي الهدف و الغاية تبرر الوسيلة " .
اقتربت من الكوكايين بكل شوق كطفلة تقترب من شفتي حبها الاول ترتعش اثارة و خوفا . ثم استنشقت الكوكايين بكل جوارحها .
الكوكايين : تلك المادة التي تقتل الجسد و تحيي الروح ، كيف يمكن لشخص يعشق الحياة و يتوق للموت ان لا يدمنها ؟
شعرت انها اسعد شخص على الارض ، كانها تحلق دون وجهة معينة . تساقطت دموع من عينيها و انتابها احساس بالوجود و لكن في ابعاد اخرى ، ذلك الوجود الروحاني و العقلي الذي لن تشعر به إلا اذا كنت مصابا بانفصام في الشخصية او اذا كنت مدمن مخدرات . تركت روحها تسافر في الافق الا متناهي ، انحنت براسها على كتفها و داعبت رقبتها باصابعها الرقيقة ، ثم تركت يدها تنزلق فوق صدرها لتتوقف عند مفرق نهديها . لبثت حالمة لوهلة و فجأة بدأت الأفكار تنهال عليها ، ابتسمت و فتحت عيناها ، لقد رجعت الى الارض الآن و لكن بروح متأهجة ، فتحت الدفتر و راحت تسكب العبارات و الكلمات واحدة تلو اخرى .شعرت ان نصها المسرحي الجديد سيولد في أي لحظة و ها هي الأفكار عند المخاض .
بعد محاولة الانتحار الفاشلة استقالت من مهنتها و اختارت السرح رغم انه لا يمثل مصدر رزق ثابت .اختارت المسرح لانها في كل لحظة اعتلت فيها الخشبة تحررت من جسدها و من اضطراب شخصيتها و من قباحة المجتمع ، لانها في المسرح فقط شعرت بحريتها المطلقة ، لانها اطلقت العنان لصوتها و مشاعرها و جسدها دون اهتمام بمن شاهدها أو من انتقدها .
فوق المسرح صرغت دون ان تتهم بالعنف و رقصت كاشفة على جسدها دون أن تتهم بالعهر و بكت و غضبت دون أن تتهم بانها حساسة جدا . او ربما انتقدها الجمهور و نعتوها بهذه الاوصاف ، المهم انها كلما وقفت فوق خشبة المسرح شعرت انها كاملة : روح و جسد و ملاك و شيطان و آدمية و الهة و كلما اسدل عليها الستار شعرت أنها هشة كجناح فراشة.
لقد أدمنت المسرح و ادمنت الكحول و ادمنت السموم ، كأنما عاشت لتموت .. أو ربما ما لم يقتلها احياها .
اشرف نصها على النهاية .. لكن كان عليها ان تذهب الى التدريب المسرحي . ستكمل كتابة النص في الليل عندما تترشف قارورة خمر بمفردها و تضيف اليها قطرات من البينزوديازبين ليكون المفعول اقوى.
توقفت عن الكتابة و ذهبت لتغير ملابسها .
اختارت ثوبها الاسود الفضفاض و حذائها الاحمر . وضعت احمر الشفاه الشانيل و نظرت الى نفسها في المرآة، ابتسمت عند بساطة لباسها و جمالها في نفس الوقت " ربما لن أعود للمنزل وحدي هذه الليلة. ربما ساجد فارس احلامي و ربما غدا سأعد قهوة لشخصين " ثم انفجرت بالضحك و قالت " و ما سمي بفارس الاحلام الا لأنه لا يوجد الا في الاحلام " .
خرجت من المنزل ثم تفكرت انها نست هاتفها . لم تعد لتأخذه فهي لا تتصل باحد و لا يتصل بها أحد. تعيش مع نفسها من اجل نفسها .
امتطت دراجتها ، رفعت فستانها كاشفة على ردفيها غير مهتمة بجارها الذي استند الى الحائط متأملا حركاتها و اغتصب حرمة جسدها بنظرة جائعة .
انطلقت في اتجاه المسرح .
وسط زحمة المدينة و سياراتها وتلوثها و قيود المجتمع و أفكاره الرجعية ، كانت هي المراة الوحيدة التي ادركت أن مغزى الحياة هو أن تجد ما يحييك و تدمنه حتى يقتلك فتموت من فرط الحياة . .
سيرين موسى
Commentaires
Enregistrer un commentaire